في تقرير خاص لـ”بلادي”: 30% من مخدرات السودان مصدرها الصيدليات

هل تبيع وزارة الصحة "السم الهاري" لشعبها؟

0

تقرير – بلادي

بأصابع مُرتجفة وعينيْن غائرتيْن، مدّ ورقة باهتة ومُهترئة إلى الصيدلانية التي مَسَحَته بنظرة سريعة وقالت دون تردد: “ما عندنا”.

انفجر الشاب في وجهها بعبارات غير مفهُومة، خرجت بصعوبة من تحت أسنانه التي كانت تصطك ببعضها مثل منشارٍ كهربائيّ، تطاير منه نشارات شتائم غاية في البذاءة والسوقية.

طفق الشاب يتحرّك بعصبية شديدة في أرجاء الصيدلية. نهض “الكاشير” من مكانه بسرعة، وسحب الشاب إلى الخارج قبل أن يعود إلى كرسيه في هدوء من اعتاد على هذا الشغب مساء كل يوم.


مخدرات تحت التربيزة

قالت الصيدلانية “رشا الطاهر”، إن الشاب الذي طردته، سيلجأ إلى صيدلية أخرى. وقد يظفر بجرعة المُخدر “من تحت التربيزة” مقابل مبلغ طائل “والصيادلة كلهم ما زي بعض”.

تواجه “رشا” يومياً، شباباً من الجنسين يحملون وصفات طبية مزورة في الغالب، ينسخونها ويتبادلونها ليتسولوا بها جرعة دواء مُخدر من الصيديات، علّ الجرعة تُسكت الشياطين التي تصرخ في شرايين الدماء المُدمنة، أو كما تصوّر لهم خواطر الإدمان وخيالاته الشريرة. كأنّ جرعة الدواء المُخدر تستعيد قصيدة عبد القادر الكتيابي: “أرتاح فى مجرى دماك فلا أذوب ولا أموت.. ولأن قلبك صاخبٌ.. ولأن حسّك مثل بيت العنكبوت.. أبداً أجيؤك بالخواطر والبيوت”!

مافيا المخدرات والسموم

يقول رئيس الجمعية السودانية لحماية المستهلك، د. ياسر ميرغني، إن 30% من المخدرات التي تغرق شباب السودان في بحر الإدمان المظلم، مصدرها الصيدليات العامة عبر ما أسماه “مافيا المخدرات والسموم” التي أعيت السلطات والمجتمع على حد سواء.

وحذّر الصيدلي ياسر ميرغني، الناشط في تنوير المجتمع بمخاطر الاستهلاك غير المرشّد، حذّر من تجاوز البروتوكول الضابط لصرف الأدوية دون وصفية طبية  “Prescription only medicine”

ومع أن تجربة السودان رائدة في إشراك المجتمع المدني في جهود مكافحة المخدرات، كون البلاد أنشأت أول لجنة وطنية لمكافحة المخدرات في العام (1960)، لكن “الصيادلة ليسوا ملائكة”، كما أشار ياسر ميرغني!

ومنذ العام (1971)، صمّم المجلس القومى للأدوية والسموم، وصفات طبية للمواد المراقبة وطباعتها وتوزيعها لمقدمى الرعاية الصحية مثل الصيدليات، إنفاذاً للمادة (30)، البند الثاني من الاتفاقية الدولية الموحّدة للمخدرات (1961).

حذاري من أدوية القُحة!

ويحذر د. ياسر ميرغني، من التوسع في صرف الأدوية التي تحتوي على المواد المخدرة، ومنها ” سيدوافيدرين Pseudoephedrine”، التي تدخل في تركيبات أدوية (القُحّة) وبعض أنواع “البندول Panadol” وهي من المسكنات التي تسبب التعوّد، ومن ثمّ الإدمان “بيديك إحساس الدوشة والسَطْلَة والذهلَلَة والسعادة والزهو”. لذا، لا يُنصح لمن تناولها لأسباب طبية، بقيادة السيارات والآليات.

ونوّه إلى أن عقار “نارفاسك Narvasc” الذي يسكّن آلام الغضروف، ينافس “الترامادول Tramadol ” في خطورته بعد أن صار هدفاً للمدمنين على المخدرات.

وأشار إلى إجماع الوسط الصيدلي على منع استيراده لأن احتمال مرضى الغضروف لآلامهم، أخف ضرراً على المجتمع من تخريج أعداد هائلة من المدمنين الجُدد الذين ينتقلون عبره إلى مخدرات أشدّ فتكاً مثل “الهيرويين والكوكايين والآيس”.

وأضاف “في العام 2007، أصدر قسم الإحصاء في إدارة الصيدلة الاتحادية توصية بشطب دواء “”آكتفيد الأحمر Actifed Compund”، وهو من أنواع مضاد الهيستامين ويستهدف أمراض الجهاز التنفسي، لأن إدارة الصيدلة رصدت استيراد السودان شحنات كبيرة جداً من الدواء، بما يفوق حاجة المرضى الحقيقيّين، ما يعني أن الدواء يذهب لتلبية حاجات المدمنين، لا المرضى. وتم شطبه من السجل.

التحايل على القانون

يقول ياسر “في العام 2008 عاد الدواء المشطوب بأسماء أخرى. والآن هناك 7 مصانع سودانية تتنافس في انتاجه، رغم أن دليل الأدوية السودانية أوصى بمنع تصنيعه واستيراده وتداوله منذ العام 2009  – (Sudan National Formulary 2009).

ويشير آخر تحديث عالمي إلى أن أدوية (القُحّة) الشائعة، لا تُعالج مرضاً، بل هي محض “خرافة” – (BNF 2007). وأفضل منها الاعتماد على المشروبات الدافئة وعصائر الليمون والبرتقال، ومصادر “فيتامين سي” كافة.

وحسب قانون الأدوية والسموم، يصدر مجلس الأدوية بأمر منه، قائمة بالمواد التي تُعتبر سموماً وفقاً لأحكـام القانون. ويجوز له تعديل القائمة من وقت لآخر حسبما يراه مناسباً، ويحدد شروط وضوابط إصدار التذكرة الطبية وطريقة رصد البيانات وتدوينها في السجل الذي يُحفظ لهذا الغرض لصرف الأدوية المخدرة التي قد تؤدي الى الإدمان، مع مراعاة أحكام قانون المخدرات والمؤثرات العقلية لسنة 1994.

الدور الإيجابي للأجهزة الأمنية

وفي بيانه أمام لجنة المخدرات الدولية في أبريل 2021 في العاصمة النمساوية فيينا، قال مندوب السودان، إن أبرز التحديات التي تواجه بلاده، الزيادة الكبيرة لعمليات تهريب عقار الترامادول، وأشار إلى أن الأجهزة الأمنية في السودان ضبطت خلال العام 2020، أكثر من (19) مليون حبة ترامادول.

وأضاف المندوب “ظل السودان معبراً للهرويين عبر المطارات، ولكن الخطير في الأمر، ظهور اتجاه جديد لتهريب الهرويين عبر ساحل البحر الأحمر، وتُستخدم السفن التجارية لتهريب كميات كبيرة من الهيروين إلي المياه الإقليمية السودانية، وبعد ذلك تُستخدم قوارب الصيد الصغيرة، ومن ثمّ إدخاله إلى البلاد عبر الدواب”.

وضبطت السلطات السودانية في العام 2020، أكثر من 1300 كيلو جرام من الهيرويين، بجانب إحباط تهريب الكبتاقون عبر الطائرات والحاويات، وبلغ أعلى مستوياته بضبط الأجهزة الأمنية، أكثر من (14) مليون حبة كبتاقون.

وقال مندوب السودان أمام لجنة المخدرات الدولية، “هذا النشاط أدى إلى ظهور أسواق لتعاطي الكبتاقون ببعض المدن الكبيرة، وانتشر تعاطيه بصورة لافتة وسط الشباب، وظهر اتجاه جديد لتهريب الكوكايين عبر بلادنا بجانب الحشيش والقات ومشتقات “أمفيتامين Amphetamine”، وهو محفز قوي للجهاز العصبي المركزي يسبب زيادة في أنواع معينة من أنشطة الدماغ، ويسبب الاعتياد على تعاطيه، في الإدمان على مخدرات أشدّ ضرراً وفتكاً بالإنسان”.

استراتيجية سودانية لمكافحة المخدرات

ويعود رئيس الجمعية السودانية لحماية المستهلك، د. ياسر ميرغني، للقول بإن مكافحة المخدرات، سلسلة مترابطة من الإجراءات المتصلة بين الدولة والمجتمع، يبدأ من مراجعة قوانين الأدوية والسموم والمخدرات والمؤثرات العقلية وتحديثها.

ويضيف “يقع العبء الأكبر لمكافحة المخدرات على الدولة، بإحكام السيطرة على المنافذ والمعابر وتوفّر الإرادة السياسية والقانونية لتقديم جميع أطرافها (المتعاطين والموزعين والمتاجرين) بجانب الذين يوفّرون لهم الحماية، إلى محاكم ناجزة وسريعة، مع إنشاء مراكز ومستشفيات متخصصة لعلاج الإدمان وتبنّي استراتيجية وطنية للمكافحة، بإسناد إعلامي احترافي بمقدوره الوصول إلى جميع فئات المجتمع.

آخر حصاد الهشيم

وأحالت نيابة الجمارك الأسبوع الماضي، ملف أكبر قضية مخدرات في تاريخ البلاد إلى منصة المحكمة.

وكانت الأجهزة الأمنية السودانية أحبطت دخول أكبر شحنة مخدرات إلى مطار الخرطوم بلغت أكثر من سبعة أطنان من حبوب الكبتاقون كانت مخبأة في تجاويف منهولات الصرف الصحي.

ورصد التحالف الأمني المشكّل من الأجهزة الأمنية والعسكرية السودانية تحرك طائرة شحن من بيروت إلى أبيدجان في ساحل العاج، ومنها الى مطار دبي، لتطير الشحنة مجدداً إلى مطار الخرطوم وتسقط في الفخ الذي نسجته وألقت القبض على صاحبها رجل الأعمال السوري.

وأشار إلى تنظيم المؤسسات ذات الصلة بالبرامج الوقائية، العديد من الدورات التدريبية في المجالات الصحية والاجتماعية الناتجة عن تعاطي المخدرات والاتجار غير المشروع فيها. وختم تقريره بالقول “يأمل السودان أن يتلقى دعماً من المجتمع الدولي فى مجال بناء القدرات والتدريب وتقديم الدعم اللوجستي والعلمي لكبح مخاطر المخدرات”.

You might also like
Leave a comment